وإن من شيء إلا يسبح بحمده

إنه لعجيب شأن ابن آدم مع الله تعالى، أكرمه الله تعالى ومتعه بسلسلة كبيرة وكثيرة من المكرمات والتقدير والتبجيل، فماذا كانت العاقبة؟ كانت النتيجة كما قال الله تعالى عنه “كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ”، خلقه الله تعالى بيديه (كما قال)، فنفخ فيه من روح منسوبة إلى ذاته العلية (كما قال أيضاً)، وأسْجَدَ له ملائكته أجمعين (كما تعرفون وتقرؤون في كتاب الله)، وسخَّر له ما في السماوات وما في الأرض (كما قال) {سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}، وأعلن عن تكريمه له في بيان صريح قاطع فقال {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.

ثم إن الله تعالى اختصَّه بأنه شرَّفه بخطابه، فوجَّه إليه خطابه وحْيَاً عن طريق الرسل والأنبياء. ثم إن الله أهاب بابن آدم أن لا يُعرض عن إلهه الذي خلقه فصوره كما شاء، أن يظل ذاكراً له {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ، فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}. فماذا كانت عاقبة ذلك في حياة ابن آدم، وقد متعه الله بعقل وإدراك ووعي؟ كانت العاقبة أن هذا الإنسان، إلا من رحم ربك، أعرض عن الله عز وجل وألقى كلَّ هذه المكرمات وراءه ظهرياً، وعانق أهواءه وشهواته وملاذَّه ويومَه الذي هو مدبر عنه وتارك له، ثم إنه اتخذ من الشيطان سيداً له بدلاً من الله، الشيطان الذي طرده الله من أجله، والذي حاقت به لعنة الله بسببه، وبسبب تكريم الله له، كانت عاقبة ذلك أن اتجه الإنسان إلى هذا الشيطان يتخذه ولياً له، ويعرض عن الإله الذي اصطفاه وأكرمه والذي طرد عدوه من أجله، وصدق الله القائل {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}، أليس عجيباً أن تكون هذه سيرة ابن آدم! {قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ، كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}. على الرغم من كل هذه السلسلة من التكريمات ومن مظاهر التبجيل والاصطفاء” … {لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}.

انظروا إلى هذه العاقبة المخجلة، ننظر إلى هذا الذي استخدم الله له سماءه وأرضه، وإذا هو، إلا من رحم ربك، معرض عن الله، وننظر إلى الخدم (بقية المخلوقات) وإذا هم الذاكرون الله المسبحون له، لا يُعرضون عنه قط!

يا عجباً! السيد المحترم المخدوم يُعرض عن مولاه الذي كرمه، والخادم يكون مثالاً لذكر الله وتسبيحه، وصدق الله القائل {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم}، {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}.

عجيب شأن ابن آدم، الذي يصغي إلى هذه المواطن من تكريم الله له، ثم يصغي بعد ذلك إلى التحذير والتأنيب من مثل قوله تعالى {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}، {ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً}، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ}. على الرغم من كل هذه التنبيهات والتحذيرات، يظل الإنسان مثالاً لقسوة القلب والإعراض عن الرب، وتظل الكائنات المسخرات لابن آدم من شجر ودواب ونجم وحيوان وطيور وأنعام، تظل مثالا لتسبيح الله وذكره، إنه لأمر عجيب.

وخطر أن يكون الإنسان المكرم عند الله مظهراً للإعراض عن الله وأن تكون المكوَّنات المسخرة لخدمته مظهراً لتسبيح الله وحمده والسجود له.

ينبغي أن تعلموا أنها حقيقة علمية قبل أن تكون دينية ما أكده لكم من تسبيح الجمادات لله. خلق الله المخلوقات متنوعة وجعل لكل صنف منها وسيلة لذكره، فجعل وسيلة الذكر لابن آدم عقله وقلبه، وجعل وسائل لذلك لا نعرفها لذكر الشجر والحجر والحيوانات. كل قد علم صلاته وتسبيحه إلا من أعرض من ابن آدم.

في كل صباح، وبين بزوغ الفجر وإشراقة الشمس تتلاقى طيور كثيرة، وتنحط متفرقة على أغصان الشجر، وتبدأ بتلاوة أورادها بترنيمة جماعية، لا يتحرك طير من مكانه من الغصن الذي انحط عليه إلى أن تشرق الشمس ويعلو النهار، وعندئذ تتفرق هذه الطيور كل إلى شأنه، فكيف أكون أنا أمام هذه الحيوانات مثالاً للإعراض عن الله، وتكون هذه الحيوانات مثالاً للإقبال على الله وديمومة ذكر الله، بل كل الجمادات لها ألسنة على قدر ما شاء الله أن تتمتع بها، ولها لغتها التي أنجدها الله تعالى بها، فهي بهذه اللغة تعدو إلى بارئها بالذكر والتسبيح. روى البخاري في صحيحه عن حنين الجذع الذي كان يتسند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً في أيام الجمعة قبل إنشاء المنبر فأقصي الجذع إلى مكان بعيد، فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر سمع كل من في المسجد أزيزاً ينبعث من جوف ذلك الجماد، إلى أن نزل المصطفى صلى الله عليه وسلم واتجه إلى الجذع فعانقه ومسه بيده الشريفة إلى أن هدأ وسكن، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجذع فأعيد إلى المكان الذي كان يخطب فيه ودفن تحت المنبر{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.

في كتاب الله آية تُدخل وخزات من العتاب الإلهي على قلب الإنسان المحترم والمكرم، لو أن الإنسان تمتع بما تتمتع به الجمادات من إحساس تجاه بارئها الأعظم {أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. كل هذه المخلوقات تسجد لله سجود ذكر وتسبيح حتى إذا وصل إلى الإنسان قال عنه {وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ}، ولم يقل “كل الناس”.

ما قصة ابن آدم؟ قصته أنه وجد نفسه أمام جانبين اثنين: جانب الروح الهابطة إليه من عند الله، وهو جانب الفطرة التي تحن إلى بارئها، وجانب الشهوات والأهواء والشيطان الذي يوسوس لابن آدم، فكان في الناس من انحط إلى الأدنى، أعرض عن الجانب العلوي وتمرغ في وحل من شهواته وأهوائه، وكان من الناس من استجاب للجانب العلوي ولهذا التحبب الذي يذكره الله في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشيخان (أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملئ ذكرته في ملئ خير من ملئه، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة). روى مسلم والترمذي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر في طريقه على مقربة من مكة، فرأى جبلاً يسمى جُمدان، قال: (سيروا هذا جمدان، ثم قال: سبق المفردون، قيل: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: المستهتَرون بذكر الله (أي المولعون بذكره) يأتون يوم القيامة وقد حط الذكر عنهم أثقالهم، يأتون يوم القيامة خفافاً أحط الذكر عنهم أثقالهم).

وداؤنا اليوم هو الإعراض القلبي عن الله، وإنما كان الإعراض بسبب خلو القلب عن ذكر الله، وقد تفرع عن هذا الداء أدواء كثيرة متنوعة، وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الورق والذهب وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربون أعناقهم ويضربون أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول الله قال ذكر الله عز و جل دائما). وهذا الحديث يعني أن ذكر الله هو مصدر هذه الخصائل الحميدة كلها، وليس معناه أن ذكر الله بديل، أي أن الذين يجاهدون في سبيل الله حقاً لا يستطيعون أن يسيروا إلى نهاية الجهاد إلا بمراحل من ذكر الله، بذكرهم الله يقضون على التضاريس والحواجز التي تحول بينهم وبين الجهاد في سبيل الله.

ذكر الله هو البوابة التي نصطلح بها مع الله، والمدخل الذي يعيدنا إلى رحاب الله، وهو الأساس الذي يذيقنا نشوة حب الله ولذة عبوديتنا له.

شاهد أيضاً

خطبة الجمعة

المولد النبوي الشريف

المولد النبوي الشريف 2015 : قال تعالى “… وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ …