في لغة القلوب

أما بعد فيا عباد الله …
تتخبط أمتنا كل تخبط، وتزدريها الأمم، ويقض مضجعها المتكالبون، عرضت آلامها على الأطباء والمصلحين فأبوها وأشفقوا منها، ورفعوا أيديهم مستسلمين لأمراض ألمت فيها، فكانت حجتهم ألا دواء لمن يقتل نفسه، ولا تطبيب لمن جُن عقله، تشرذم أبناؤها وألحقوا بها المهلكات، وادعى كل منهم أن الترياق بحوزته، وأن الشفاء بطريقته، فنزلوا بها كل مهلكة، وصرفوا عنها كل مرحمة، وجلبوا اليها كل مخمصة. قست القلوب، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وكثرت الذنوب، فأثقلت المناكب، وحيل بيننا وبين كتاب الله، وانصرفنا عن ذكر الله، حتى صدئت مقلاتنا، واختلفنا في سنة رسول الله حتى أنهكتنا حروبنا، واكتوينا بنار الفرقة والخلاف.

وتعلمون كما أعلم يا عباد الله أن ما سبق توصيفه ليس الا شرحا مهذبا منمقا لحالنا، وأن الحقيقة أكثر ايلاما وأشد تنكيلا، وأن الواقع ان أردنا وصفه كما هو فإننا لا نجترئ أن نقوله في بيت الله، وننزه عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

نعم أيها المسلمون، ما كان حديثا يفترى، وإنما أقول هذا وقد اشتدّ البلاء، والأمة من مصيبة الى نزيلة، أتأمل من يدعو الى اصلاح أمر هذه الأمة ممن يسمون بتيارات الاسلام السياسي، وآخرين ممن يدعون الى الخلافة، وجل من يتحدث بنفس اسلامي في وقتنا الحاضر، فأجد جلّهم يدعو الى أحكام عامة يستخلصها من القرآن الكريم، والسنة النبوية، فيحدثون في حكم الزاني، ومن ثم يفصلون ان كان محصنا أم لا، فيحكمون بعدد جلدات أو برجم، أو يتحدثون عن حد السرقة ومن أي موضع تقطع اليد، وما العمل ان تكرر الأمر، وآخرين يتحدثون عن الخلافة ودولتها، وعن شروط أمير المؤمنين فيها، وأحكام الولايات التابعة لها، وأين يصرف خراجها، وكيفية فتح ولايات أخرى، الى آخر ذلك مما تعلمون.

إخوة الإيمان، سأروي قصتين، فيهما من العبرة الكثير، ومن الأجوبة على الاستفهامات ما يروي الظمأ.

في القصة الأولى:
كان قوم اتخذوا مضارب لهم في وسط الصحراء، لهم قلوب قاسية، تأتيهم قبائل أخرى لمدينتهم ممن حولهم، اتخذوا أصناما يعبدونها من دون الله، يأكلون الميتة، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام، ويسيئون الجوار، ويأكل القوي منهم الضعيف، فكانوا كذلك حتى بعث الله فيهم رسولا منهم، يعرفون نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعاهم الى الله ليوحدوه ويعبدوه، وليخلعوا ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم من دون اللهمن الحجارة والأوثان، وأمرهم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهاهم عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرهم أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئا، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصيام.

كذّبه القوم وآذوه، وألحقوا به الجراحات، فأصر على دعوته، فقالوا أنه مجنون، قال يا قومي ليس بي ضلالة ولكني رسول رب العالمين، أبلغ رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون، فأتاهم بما أمده الله به من معجزات بينات. فقالوا هو ساحر يريد أن يخركم من أرضكم ويذهب بطريقتكم المثلى، فتصبر عليهم، ودعا الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فقالوا قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز.
اشتدت عليه المحن، وهو يغلب الحديث بالحكمة والموعظة والحسنة، وما آمن معه الا قليل، قليل تحمل أعباء الدعوة، وذاق في سبيلها شتى أنواع العذاب، ولم يأمرهم نبيهم الا بالصبر والاحتساب، كان ديدنه أن يغرس في قلوبهم التقوى، ويحبب اليهم الايمان ويزينه في قلوبهم، ويكره اليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويذهب بأخلاقهم الذميمة ليستبدلها بأخرى حميدة، وكلما ضاقت به أذية قومه، دعا ربه بلغة الرحمة والحب التي أرسل بها وقال “اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون”.
يأتيه رسول رب العالمين أن مرني لهم بالعذاب، فيقول بذات اللغة التي هو أهل لها “لا يا أخي يا جبريل، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحده ولا يشرك به شيئا”.
تستمر دعوته ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وليغير ما في نفوسهم، الى أن يخرجوه من أحب بلاد الله الى قلبه، والقوم يعتقدون بأنهم تخلصوا منه ومن دعوته، لكن كيف يكون؟ كيف يكون ورسالة الاسلام حملتها القلوب، وسكنت جذوتها الأفئدة التي تعلقت بالله، وصارت تجري في أجساد من آمن مجرى الدم، ليربط على قلوبهم ويثبت به الأقدام.

سنوات قليلة، ويظهر الله أمره، فيفتح لنبيه فتحا مبينا، بعد أن تطهرت قلوب من صاروا أهلا للدعوة، فتحمل تلك القلوب رسالة الرحمة والخلاص للبشرية جمعاء، لينطلق نورها ويعم البسيطة كلها، وليخرجوا العباد من عبادة العباد الى عبادة الله الواحد القهار، ليخرجوهم من الظلمات الى النور بإذن ربهم.

في القصة الثانية:
وبعد أربعة عشر قرنا على دعوة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، يحصل أن تمرض أمته، وتعتريها براثن الجهل والضلال، فيعودون لقطع الارحام، ولإتيان الفواحش، ولإساءة الجوار، ويضرب بعضهم أعناق بعض، فيخرج فيهم من يدعو الى اقامة الخلافة، ويسيل في سبيلها الدماء، أناس قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، لهم قلوب لا يفقهون بها، وآذان لا يسمعون بها، وأيد يبطشون بها، يدعون أنهم على شيء وما هم على شيء، يأتون بمظاهر الاسلام وقد فسدت قلوبهم.

عن أي خلافة يتحدثون، فليخرج كل منا بعد أن تنقضي الصلاة الى الاسواق والأزقة، وليحكم بما تحتاجه الأمة، اخرجوا لتعرفوا أي انحدار أخلاقي وصلنا، اخرجوا لتلتقوا بالسارق والزاني والخائن، أهذه أمة بحاجة الى خليفة ليضرب الاعناق ويأتي بالخراج؟ أم أنها بحاجة الى اصلاح القلوب التي انطفأت فيها جذوة الاسلام؟ متى كانت الخلافة مطلبا للنبي عليه الصلاة والسلام؟ ألم تعرض عليه الدنيا بكل ما فيها وهم يقولون لعمه أبو طالب “ان كان يريد مالا جعلناه أكثرنا مالا، وان كان يريد جاها جعلناه سيدا علينا، وان كان يريد ملكا، ملكناه علينا، وان أراد السلطان أعطيناه مفاتيح الكعبة” وهو يرد ويقول “كلمة يقولونها مؤمنة بها قلوبهم تدين لهم بها العرب والعجم”.
متى كانت الخلافة مطلبا له، وهو الذي يعلم أن هذه القلوب ان سكنتها جذوة الدين الحق والايمان الحق، ملكت هذه الأمة مشارق الارض ومغاربها، ثم انه متى قامت الخلافة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام بمفهوم الدولة؟ ثلاثة عشر عاما في مكة وهو يدعوهم لتطهير قلوبهم، ثم هاجر الى المدينة، فكان تقسيم المجتمع في المدينة كالتالي: ثلثه يهود وثلثه من أهل المدينة الذين لم يسلموا بعد، وثلثه مسلمون، وأقام فيها ليس حاكما، بدليل آلية اتخاذه لقرارات الحرب والسلم في بدر وأحد والخندق وغيرهم من الغزوات التي كانت غزوات دفاع عن النفس ليس إلا، وبدأت تتشكل ملامح الدولة في العام السادس للهجرة يوم أن أوفد الرسل الى ملوك العالم. لا دولة قبل ذلك اليوم، وهو يوم متأخر نسبيا اذا ما نظرنا الى عمر الدعوة. ثم ألم يتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه وهو سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين، وإيمانا منه أن جوهر دعوة جده رسول الله صلى الله عليه وسلم انما قامت لتصلح القلوب وتطهر النفوس، وهو يعلم في ذلك اليوم أن الخلافة قد اندثرت الى الأبد وما يلي هو ملك عضود.
أيها المسلمون:
نقول هذا ونحن نعلم قيمة أن يكون للمسلمين دولة تحميهم وتوحد كلمتهم وترعى مصالحهم، ولكن ما نعلمه بزيادة أن الله لن ينظر الينا وقلوبنا مشغولة بغيره، لن ينظر الينا وقلوبنا لا تحمل الا الكراهية والبغضاء، لن ينظر الينا ونحن نخاطب بعضنا بغير لغة الرحمة والحب التي جاءنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول لمن اصطلح على تسميتهم بالاسلاميين “ان أخطر شرك يحيق بهم هي لغتهم التي يخاطبون الناس بها، وحديث نفوسهم لهم أنهم يتحدثون باسم الاله، وأن كل من يخالفهم ما هو الا كافر بالله حتى وان أظهروا غير ذلك، وذلك والله منزلق خطير يودي بالأمة الى كل مهلكة، هذه الأمة لا يجدد لها الا ان عمرت قلوب أبنائها بحب الله، وبذكر الله، وبإقام الصلاة وايتاء الزكاة، وهذه العوامل محصلتها أن تسود الأخلاق الحميدة في المجتمع، التي هي جذر أي بناء حضاري. أما لأولئك التكفيرين فلا أقول الا ما قاله الله عز وجل في كتابه مخاطبا نبيه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم “قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون”.

محمد حسني الشريف