مجتمعات ما بعد المؤامرة

في البداية لابد من الإقرار أن “جدلية” نظرية المؤامرة هي مسألة مختلف عليها تاريخيًا، فهناك مؤيدون لنظرية المؤامرة ومعارضون لها ربما على مرّ التاريخ، من الشرق ومن الغرب. وتعدى ذلك من البسطاء إلى الأوساط المثقفة أو النخب، حتى أنها أخذت في كثير من الأحيان بعدًا دينيًا أو ميتافيزيقيًا أيضًا. فآلهة اليونان على سبيل المثال كان بعضهم يتآمر على بعض، بحسب فهم الأتباع، فإله الحرب كان يتآمر على إله الحب، وحسب اليهودية فقد تآمر الله على “إسرائيل” لأن إسرائيل “بطحه” بحسب المنطوق التوراتي، واليهود تآمروا ووشوا بالمسيح إلى الوالي الرومي لصلبه، حتى على الصعيد الإسلامي فقد درجت الروايات التي تُحدّث بأن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد مات مسمومًا بفعل المرأة اليهودية…

إذن فمسألة “المؤامرة” ونظريتها لها أبعاد وتاريخ بغير الشكل التي هي عليه الآن، لكنني أود أن أشير إلى أنها ليست ذات شكل سلبي دائما،أو بكلمات أخرى قد يكون لنظرية المؤامرة جوانب ايجابية على المجتمع، فبحسب علم النفس الاجتماعي قد تستخدم نظرية المؤامرة لخدمة الجماعة نفسها، ففي كثير من الأحيان تخلق الجماعة عدوًا وهميًا، أو قضية وهمية، أو تُضخّم مسألة عادية للحفاظ على تماسكها وربما تاريخها ووجودها، وليس أدلّ على ذلك ما فعلته الصهيونية في خلق مسألة “معاداة السامية” أو تضخيم مسألة “المحرقة”، للإيهام بأن هناك مؤامرة على اليهود للتخلّص منهم، ومن ثمّ العيش بدور الضحيّة، ويُنكر حقيقة من يقول بأن اليهود لم يتكسبوا من هذا الموقف الذي صنعوه بإتقان، وما زالوا “بترزقوا” منه حتى اليوم.

المشكلة تكمن في البعد السيكولوجي، على أقل تقدير علينا نحن العرب، إذ إن المسألة لدينا تطوّرت وأفلتت من أن تكون دافعا للعمل، لأن تكون مثبّط ودعوة للانهزام والتقوقع، ولهذا الأمر تاريخ سأورده فيما يلي:

لا يُنكر عاقل أننا نتعرّض لمؤامرة تلو الأخرى على مرّ تاريخنا ، فسقوط الدولة العثمانية على سبيل المثال احتاج إلى كم هائل من المؤامرات على مسافة مئات السّنين، وما كان يفعله السّلطان “الصالح” عبد الحميد في النهايات ما هو إلا محاولات لإفشال المؤامرة، لكن الفتق كان قد اتسع على الراتق، ومن ثم كانت مؤامرة “سايكس- بيكو” لتقسيم ترِكة “الرجل الذي كان مريضًا ومات”، وهي مؤامرة حقيقة أيضًا…

بعد هزيمة 67 ، كان القرار العربي على مستوى الحكّام بأنه لابد من مخرج، فانبرى “المرحوم” هيكل بفكرتين رئيسيتين أشار بهما إلى “المرحوم الآخر” عبد الناصر، الأولى تسمية الهزيمة بـ “نكسة”، في إشارة إلى الجماهير المهزومة إلى أن الأمر لم ينتهي ولنا عودة، الفكرة الأخرى التي أشار بها لعبد الناصر هي ترجمة كتاب “احجار على رقعة الشطرنج – التطبيق العملي لبروتوكولات حكماء صهيون” الذي كان منسيا منذ منتصف الخمسينات، الكتاب يحكي كيف تحكم الصهيونية العالم منذ القرن الرابع عشر، وبأنك مهما فعلت فلن تستطيع مواجهة نفوذهم وقدراتهم وأساليبهم، وفي الحقيقة أصبح هذا الكتاب ثقافة لدينا، نعيش أهوالها إلى يومنا الحاضر، قام عبد الناصر بالإيعاز لترجمته، وأصبح هناك مبرّر “عملي” للحكام العرب للهزيمة، فالصهيونية تحكم العالم ومهما فعلتم أيها الشعوب العربية فلن تستطيعوا تغيير هذا الواقع، حتى بعد “انتصار أكتوبر” الانتصار الذي لم يكن كاملا فهو لم يسترد أرض ولا هزم عدو، تم اتهام المرحوم الملك حسين بأنه قد سرّب ساعة الصفر إلى جولدا مائير، واتهمه هيكل صراحة بأنه يتقاضى راتبًا من CIA. إذن، فقد غرقنا في نظرية المؤامرة. وأصبح أنها مؤامرة، مبرّرا كافيا لأي هزيمة وأي تقاعس، لم يسأل أحدهم مثلا إذا افترضا أن الملك حسين قد سرّب ساعة الصفر فكيف عرفها، ومن المعلوم حينها أن النظامين السوري والمصري كانا على عداء مع النظام الأردني على خلفية أحداث أيلول، قالوا إنها مؤامرة وصارت هذه الكلمة كفيلة بتقبّل أي وضع…

المشكلة بحسب رأيي المتواضع لا تكمن بإيماننا بنظرية المؤامرة من عدمه، فالمؤامرة موجودة، لكنها لا تعدو أن تكون مصالح لدى الآخر في بلادنا، وهو لا ينفك يتكسب منا طالما أنه يستطيع، المطلوب ببساطة هو أن لا نجعله يستطيع، أدرك أن ما أدعو إليه بحاجة إلى عمل جبّار، وتغيير لكثير من المعادلات القائمة، لكن ما البديل؟

إن الاستكانة لمنطق “المؤامرة” بالصورة النمطية التي في أذهاننا لهو انهزام قبل بدء المعركة، وسأقول في النهاية إن هذه الاستكانة للمؤامرة هي المؤامرة الحقيقة التي نسجتها عقولنا، لترتاح من نخز الهوان.

بقلم محمد حسني الشريف

شاهد أيضاً

وإنك لعلى خلق عظيم

ثلاث شعرات

كنت في صغري وبالتحديد في بدايات سن المراهقة مولعا بالمسلسلات والأفلام التاريخية، فيلم “الرسالة” على …